في خِضَمِّ الحياة وأحداثها المضطربة، ثمَّة أشخاص تكون قراءاتهم هي الحدث الرئيس؛ يعيشون ما يقرءون، ويخرجون عن رتابة الحياة اليومية إلى حيوات لا تعرف حدودًا للزمان ولا للمكان، فلكأنهم ينفصلون عن الواقع ويندمجون معه في اللحظة عينها. وما يفعله «طه حسين» في هذا الكتاب هو مشاركتنا لحظاته التي قضاها بصحبة عيون الأدب السرديِّ الغربيِّ، صانعًا من خلال عُروضه البديعة لآثار «بول جرالدي»، و«فكتور هوجو»، و«ألكساندر دوماس الابن»، و«هنري بتايل»، و«جان جاك برنار»، و«موريس دونيه»، وغيرهم، قنطرةً أدبيَّةً راقيةً تصل بين الشرق والغرب، وتفتح العقول على آفاق فكرية أرحب، وتجارب إنسانية أكثر عمقًا. والمؤلِّف هنا لا يعمد إلى نقل نصوصهم مترجمةً ترجمةً جامدةً، بل ينقلها نقلًا حيًّا، مُفعمًا بما انطوت عليه اللحظة، وما تراكم في حافظته اللغوية والنقدية والمعرفية من فوائد وفرائد.
لم تكن رسالتا الأدب والإصلاح منفصلتين عن بعضهما البعض، بل تبنَّاهما «طه حسين» على التوازي حينًا وبالتقاطع أحيانًا، وأَوْلَاهما الاهتمام الذي تستحقانه، وهو ما يظهر بجلاء في هذا الكتاب. فطه حسين الأديب الذوَّاقة، والذي عرف حقَّ المعرفة أن الأذواق والمناهج النقدية المختلفة تنتج قراءات مختلفة للعمل الأدبي، يقدِّم في الشقِّ الأول من كتابه عروضًا لكتب سردية وشعرية وأدبية متنوعة، أفرزتها قرائح كتَّاب عرب وأجانب متنوعي الخلفيات والمشارب، من بينهم: «يوسف السباعي»، «نجيب محفوظ»، «يحيى حقي»، و«ألبير كامو». أما الشقِّ الثاني من الكتاب فيتناول موضوعات ذات طابع إصلاحي، تتعلق بالعدالة الاجتماعية، والتعليم، والاجتهاد الفقهي، والمشادات التي وقعت بين المؤلِّف ومؤسسة الأزهر الشريف في مصر حول زمرةٍ من المسائل الخلافية.
دشَّن زكي مبارك كتاب «الأخلاق عند الغزالي» وهو لا يزال شابًا بقلمٍ تغمرهُ روحُ الحماسةِ والانطلاق، وسليقةٍ تحوزها ملكة مفعمة بالنقد، فكان قلمهُ قاسيًا على من تناوله بالنقد، وقوله صادمًا لكل مُغرضٍ من الصدق ومُرجفٍ من الصواب، وقد نأى المؤلف بنفسه عما كان سائدًا في عصره من اجترارٍ لمناهجِ القدماءِ في مداهنةِ السلفِ وتقديسِ الشخصياتِ التاريخية، وآثر أن يُخضع موضوعه للدراسة التي يرمي من خلالها إلى إبراز الحق وإقامة العدل، فتناول الأخلاق عند الإمام الغزالي كمبحث فلسفي تناولًا نقديًّا رصينًا، حيث درس الإمام في عصره، وحياته، وتعرَّض إلى مصادره الفكرية، ومؤلفاته وعلاقتها بمبحث الأخلاق، ولم يكتف بذلك فقط، بل امتد اهتمامه إلى دراسة التأثير الفكري للأخلاق عند الغزالي فيمن لحقوه، كما وازن بينه وبين فلاسفة الغرب أمثال: ديكارت، وهوبز، وسبينوزا.
يضم هذا الكتابُ مجموعةً من المحاورات والمناظرات التي تصور ما كان يصطرع في الجو الأدبي والاجتماعي في النصف الأول من القرن العشرينَ من آراءٍ وأهواءٍ، وأحلامٍ وأوهامٍ، وحقائقَ وأباطيلَ، وفيها نقدٌ وتشريحٌ لآراءِ طائفةٍ من العلماء والأدباء.
فصّل الأديب والناقد الكبير زكي مبارك في هذا الكتاب الخصائص الأصيلة لثلاثة من الشعراء جمع بينهم التوحيد في الحب، وهم: جميل بن معمر، وكُثيّر بن عبد الرحمن، والعباس بن الأحنف، وكان هؤلاء من أقطاب الغزل في شباب العصر الإسلامي. يمتاز ثلاثتهم بالجد في العشق، وبالحرص على كرامة الحب، وبالإشادة في العفاف، لأن الهوى عندهم ليس لهو أطفال ولا عبث شباب، بل هو شريعة وجدانية لها قدسيتها.
فطر الناس على حب المفاضلة بين الوسائل التي ترمي إلى غرض واحد، والموازنة بين الأنواع التي ترجع إلى أصل واحد، وقد ظهرت هذه الفطرة واضحة جلية حين ظهر الشعر، وتبارى في قرضه الشعراء. وليست الموازنة إلا ضربًا من ضروب النقد، يتميز بها الرديء من الجيد، وتظهر بها وجوه القوة من الضعف في أساليب البيان؛ فهي تتطلب قوة في الأدب، وبصرًا بمناحي العرب في التعبير، ومن هنا كان القدماء يتحاكمون إلى النابغة تحت قبته الحمراء، في سوق عكاظ، إذ كان في نظرهم أقدر الشعراء على وزن الكلام
«هو كتابٌ شَغلت به نفسي سبع سنين، فإن رآه المصنفون خليقًا بأن يغمر قلب مؤلفه بشعاع من نشوة الاعتزاز، فهو عصارةٌ لجهود عشرين عامًا، قضاها المؤلف في دراسة الأدب العربي والأدب الفرنسي، وإن رأوه أصغر من أن يورث المؤلف شيئًا من الزهو، فيتذكروا أني ألَّفتُه في أعوام سُودٍ، لقيتُ فيها من عَنَتَ الأيام ما يقسم الظهر، ويقصف العمر … إن هذا الكتابَ أولُ كتاب من نوعه في اللغة العربية، أو هو — على الأقل — أولُ كتابٍ صُنِّف عن النثر الفني في القرن الرابع، فهو بذلك أول منارة أُقيمت لهداية السارين في غيابات ذلك العهد السحيق.»
يجمع زكي مبارك في جزأين مجموعة المحاضرات التي ألقاها في قاعة كلية الحقوق بجامعة بغداد ثلاثينيات القرن العشرين. ويبرر الكاتب اختياره الشريف الرضي موضوعًا للمحاضرات بوصفه أعظم شاعر في اللغة العربية أمام المستنكرين الذين سألوا: أيكون الشريف أشعر من المتنبي؟ ويطبق مبارك في دراسته هذه مجموعة من قواعد النقد الأدبي التي أصّل لها في كتابه الأسبق «الموازنة بين الشعراء»، ساعيًا إلى تغيير موازين النقد الأدبي عند الباحثين، وتوجيه الدراسة الأدبية لإصلاح ما أفسده الخواص من النقاد. ويعول مبارك في هذا على موقفه من دراسة الرضي الذي تبنى فيه موقف الصديق من الصديق، لا التلميذ من الأستاذ كما هو سائد؛ فآمن إن آمن، وكفر إن كفر، وإن جد الشريف جدد مبارك، وإن لعب لعب. مع حرصه على معاملة الصديق الأمين؛ فيقف عند عيوب الرضي ينبه إليها بتلطف ودقة لا يفطن إليها إلا الأذكياء.
أوردَ «ابن المُقفع» في كتابه «الأدب الكبير» فرائد من الحِكَم الفارسية، نقلها بروح العربي الأريب، الذي يعرف ما يُكِنُّه العقل العربي، وما تحتاجه نفوس تلك الشعوب؛ فكان وكأنه كُتِبَ تحت ظِل خيمةٍ في بادية الحجاز، بِيَد أحد حُكماء الزمان بعد أن تَقَلَّب في سماء الدهر عقودًا؛ فخرج علينا سِفْرًا فريدًا يحفل بعظيم الأدب، وجمال الأسلوب، وحُسن التوجيه، وبه موضوعان رئيسيَّان؛ أولهما: عن «السُّلطان» أي الإمارة، وما يجب أن يصاحبها من أخلاقٍ وآداب، وثانيهما: «الأصدقاء» وما تقوم عليه الصُّحبة من اللطف وحسن المعاشرة. وقد جاء الكتاب في عصرٍ ازدهرت فيه الكتابة النثرية (العصر العباسي)؛ إذ يُعَدُّ عصرَ التطوُّر الحقيقي للنثر العربي.
هو دُرَّة التراث العالميِّ، وواحد من أفضل كتب الأدب التي تخطَّت أطُر المكان وحدود الزمان لتعيش بيننا حتى اليوم. إنه الكتاب الذي يتناوله الصغار فيستمتعون بحكاياته، والكبار فيستنبطون منه المعاني العديدة والعميقة. وقد اصطبغ الكتاب بصبغات أكثر الحضارات الشرقية ثراءً؛ فهو نتيجة تلاقي ثلاث حضارات هي (الهندية والفارسية والعربية)، والشائع أن مؤلِّفه هو الحكيم الهندي «بيدبا»، وقد كتبه لينصح به الملك «دبشليم»، ثم انتقل الكتاب إلى الأدب الفارسيِّ عندما قام «برزويه» بترجمته إلى «اللغة الفهلوية» وأضاف إليه، وأخيرًا وصل إلى الأدب العربيِّ حينما قام «عبد الله بن المقفع» بترجمته مضيفًا إليه بدوره. ولا شكَّ أن الكتاب يحمل في طياته أبعادًا سياسية واجتماعية؛ جعلته حتى اليوم مادةً للبحث والاستقصاء، وسيظل «كليلة ودمنة» مصدر الإمتاع الأدبيِّ المفضَّل لدى الكبار والصغار.