استلهم الكاتب من شخصية الفتاة اللبنانية التي عشقها وحي مناجاته مع القمر، وأراد أن يُعَلِّم الطلاب فن البلاغة والإنشاء من خلال تلك المناجاة. فالكاتبُ في هذا الكتاب يُنْزِلُ القمر من علياء السماء كي يرى فيه صورة المحبوبة بأسلوبٍ يفصحُ عن نفيس الدر في فن الإنشاء؛ فهو يتخذ من وجه القمر آيةً يُفَنِّدَ فيها دلائل الإعجاز الجمالي في هذا الوجود الرباني. فيستنطِقُ بحديثه مع القمر لسان الطالب ببدائع اللفظ الإنشائي، وقد وفِّقَ الكاتبُ في اصطفائه للقمر؛ كي يرسم على صفحته إبداع الخالق ويستقي من جماله القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية. وذلك لأن القمر الساكن في أفق الليل هو خير صديقٍ تُوْدِعهُ النفس آلامها وأحزانها.
يرسم مصطفى صادق الرافعي كتابه هذا بريشة الفنان، ويُزيِّن معانيَه بحُلِيِّ البيان، ويلوِّنه بحسن الإيمان، فتتداخل الحدود بين العالم المادي وعالم الإنسان، فلا يدري القارئ أحقيقةٌ ما يقرؤه في هذا الكتاب أم خيال؟! أعقلٌ هو أم جنون؟! حقًّا، لقد أفاد الرافعي بما فاض به خاطرُه، وجاد به فكرُه، وسال به قلمه، فسطَّر مجموعةً رائعة من النثريات، تباينتْ بين فصولٍ ومقالاتٍ وقصص عن مواضيع متنوِّعة، كتبها في ظروفٍ مختلفة وأوقاتٍ متفاوتة، فأخرج لنا في النهاية تحفةً أدبيةً استحقَّتْ أن تُسمَّى بحقٍّ «وَحْي القَلَم».
كان أناتول فرانس — أحد أعلام الأدب الفرنسيِّ في القرن التاسع عشر — أديبًا من الطراز الرفيع؛ فمجموع ما تركه من مؤلفات وأعمال أدبية يكشف عن تحلِّيه بموسوعيَّة هائلة ضاهى بها مفكِّري عصره. وقد برز في كتاباته طابع فلسفيٌّ واجتماعيٌّ خاص، وروح حكيمة ومرحة في آنٍ واحد، فضلًا عن قدرته على سبر أغوار النفس البشرية، واستنطاق الطبيعة والكون بأسره. ولمَّا كان إعجاب عمر فاخوري بالأديب الفرنسيِّ عظيمًا، وكانت فجيعته في وفاته سنة ١٩٢٤م عظيمة هي الأخرى، فقد أراد أن يقدِّم لقراء العربيَّة قبسًا من أفكار أناتول وآرائه، بما تضمَّنته من قضايا النفوس والأرواح، والحياة والموت، والحقيقة والخرافة، والعلم والدين، والماضي والمستقبل، والتمدُّن والوحشيَّة، والحبِّ والغواية. إنه واحدٌ من الكتب التي تمتع القارئ وتحمله على الفكر والتفكُّر.
هذا الكتاب هو مجموع ما كتبه الناقد «عمر فاخوري» من مقالات مثيرة للجدل حول الشِّعر والشُّعراء، صدَّرها بمقالته «الشاعر وأبناؤه» والتي ناقش فيها تحيُّز الشاعر لكتاباته المبكرة والأقل جودة من غيرها، وذلك بدافع من «الحنان الأبوي» وليس لمجرد غرور أدبي. وتتعدَّد الموضوعات التي يطرقها المؤلِّف بين مسألة الإلهام الشعري، أغراض الشعر وتطوُّرها، جمهور الشعر، المرأة الشاعرة والمرأة في الشعر، تراجم ومراجعات للشعراء، كيف يعلي النقَّاد من باب المداهنة من شعراء ويخفضون آخرين، كما يعلِّق المؤلِّف على بعض دواوين معاصريه الشعريَّة، يتناولها تناولًا واقعيًّا يأخذ بعين الاعتبار العلاقة بينها وبين مفردات العصر الذي كُتبت فيه، ويذهب في واقعيَّته مذهبًا حادًّا لاذعًا بين الفَيْنة والأخرى حتى يصف شعرهم بالرديء، بل وينفي شعريَّة بعضِهم ويشيد بإجادتهم فنونًا أخرى أبعد ما تكون عن الشعر.
يُقرِّرُ «عمر فاخوري» أنَّ الحقيقةَ ليسَتْ مُرَّةً وليسَتْ حُلْوة، بل إنَّ لها طعمًا خاصًّا. والحقيقةُ اللبنانيةُ عندَه لا تنفصِلُ عَنِ الحقيقةِ العربية؛ فلبنانُ — البلدُ الصغيرُ في جغرافيَّتِه وتاريخِه — استطاعَ بتنوُّعِه واعتداليَّتِه أنْ يُشكِّلَ حلقةَ وصلٍ بينَ الشرقِ والغرب، ومَنارةً للثقافةِ وأبجديَّاتِ التجديدِ في مَيادينَ عِدَّة، حتَّى تَولَّدَ ما سمَّاه المؤلِّفُ «الإشعاعَ اللبناني». وفي لحظةٍ كانَتْ فيها خريطةُ العالَمِ يُعادُ تشكيلُها إبَّانَ انقضاءِ الحربِ العالميَّةِ الثانية، برَزَ سؤالٌ أساسيٌّ مُؤدَّاه: كيفَ يَبنِي اللبنانيُّون في عهدِهِمُ الجديدِ وطَنًا يَتآلفُ مُواطِنوه ويَفرِضُ احترامَه على الآخَرِين؟ عن هذا السؤالِ وغيرِه يحاوِلُ فاخوري تقديمَ إجاباتٍ تَستشرِفُ آفاقَ المستقبل، بل تَخلُقُها أيضًا، وفي خلفيَّتِها قراءةٌ واعيةٌ للماضي مِن جهة، ولواقعِ الحالِ آنذاكَ مِن جهةٍ أخرى، بأسلوبٍ تأمُّليٍّ استقرائيٍّ رصين، ومُفعَمٍ بمعاني الوطنيةِ والإخلاصِ للوطن.
ليس عن دوران الأرض حول الشمس يتحدث «عمر فاخوري»، وإنما مدار هذا الكتاب أربع قضايا أدبيَّة كُبرى عبر فصول أربعة. ويناقش الفصل الأول حدود الإبداع متعرِّضًا لقدرة الأديب على التحرُّر من ضيق التقليد إلى عبقريَّة الخلق الجديد. وينتقل في الفصل الثاني إلى الأساليب النقديَّة، داعيًا إلى التخلص من طرق النقد المتحجِّرة غير الموضوعيَّة، والتي تنشغل بهوس إصدار الأحكام، بدلًا من تذوُّق الأدب من حيث كونه عملًا إبداعيًّا متكاملًا. ويفرد المؤلف الفصل الثالث للشعر؛ الصوت الأدبيِّ صاحب الضجيج الأعلى في كل زمان، ويرى وجوب أن يكون ابنًا شرعيًّا لزمانه، وليس استنساخًا لأشعار القدماء. وفي الفصل الرابع والأخير يتناول فاخوري «الجمال بين الحركة والسكون» حيث يخلص إلى إن من الشعر والأدب ما يستحثُّ قراءات خاصَّة تكشف عن جماليَّات لغته وتحلُّ إلغاز معانيه.
قدَّم الشيخ المستنير «رفاعة الطهطاوي» في هذا الكتاب أفكاره الأساسية في إصلاح المجتمَع وتنويره، بحيث يُمْكن اعتباره كِتابًا في التثقيف السياسي، هَدَفُه شحْذ الهمة الوطنية وإذكاء الروح المصرية من جديد. وقد رأى رفاعة أن قضية التمدن أو تحديث المجتمع المصري وتطويره تتم من خلال إصلاح بعضٍ من عاداته، حيث إن التمدن يتحقق من خلال تهذيب الأخلاق وبثِّ الفضائل بين أفراد المجتمَع، وكذلك توفير وتطوير ما أسماه ﺑ «المنافع العمومية» الممثَّلة في الخدمات العامة التي تُقَدِّمها الدولة، والصناعة والزراعة والتجارة، بحيث تفيد كافة المصريين دون تمييز، كما نبَّهَ أن عملية التمدن يجب أن يشترك فيها الجميع، كل حسب طاقته، كذلك يشير إلى مسئولية البعض عن دفع عجلة التمدن كالأمراء والمثقَّفِين، أو من يُسَمَّوْا بالنخبة، من خلال دَعْمهم لمشروعات التعليم والثقافة مادِّيًّا ومعنويًّا.
تَظلُّ الفكرةُ حبيسةَ العقلِ إلى أنْ تَستفزَّها الأحداث، وتُمعِنُ الفكرةُ في التبلوُرِ حتى تَستحيلَ عقيدةً راسخةً ثابتة، وحينئذٍ لا تستطيعُ أعظمُ القُوَى أنْ تَمحوَ ما اتَّخذَ مِنَ القُلوبِ والعُقولِ بيتًا وسكنًا، و«تبلَّغوا وبلِّغوا» كتابٌ جمَعَ فيه الكاتبُ القوميُّ الشاميُّ «سعيد تقي الدين» ما يُؤصِّلُ لعقيدتِه الحِزبيةِ القومية؛ فكَتبَ وكأنَّه الأبُ الرُّوحيُّ للحركةِ القوميةِ السورية، فألْهمَها، وثبَّتَها، وأرشَدَها؛ ففاضتْ صفحاتُ كتابِه بحُبِّ الوطنِ والفناءِ مِن أجلِه، وهي مجموعةُ مقالاتٍ عقائديةٍ وسياسيةٍ وقوميةٍ واجتماعية، نَشرَها الكاتبُ على فتراتٍ متلاحقةٍ بعِدةِ مجلاتٍ وجرائدَ سورية، منها الساخِر، ومنها الثَّوري، ومنها الناصِحُ المُشفِق، ومنها المُحلِّلُ المُدقِّق.
كثيرًا ما دُعِي الأديب والسياسي اللبناني «سعيد تقي الدين» لإلقاء محاضرةٍ أو خطبةٍ هنا أو هناك، عن أحد الموضوعات الثقافية أو السياسية، فكان يحرص أن تكون كلمته قصيرةً واضحةَ اللفظ والمعنى، فهو يعلم أن المَلَل يتسلَّل سريعًا إلى نفوس المستمعين في هذه المناسبات إذا طالَتِ الخطبة، أو صعُبَتْ أفكارُها، منتقِدًا بأسلوبه الساخر الرشيق ما يُشبه الحُمَّى التي أصابَتِ البعضَ الذين اعتبروا شهاداتِهم الجامعيةَ جوازَ مرورٍ دائمٍ يُمَكِّنهم من أن يُحاضِروا في أي موضوعٍ بعلمٍ أو دون علم. وقد جمَع في هذا الكتاب عددًا من الخطب المختلفة التي ألقى بعضَها في مؤتمرات سياسية جادَّة تُناقِش قضايا الأمة، وبعضُها الآخر كان كلمةً ارتجالية في حفلة تخرُّج جامعية، أو وسطَ ثُلَّةٍ مَرِحة من الأصدقاء.
لماذا نقفل المدينة؟ ولماذا غدًا وليس الآن؟ هذان التساؤلان اللذان يُثِيرُهما عنوان الكتاب، لا إجابةَ جاهزة عنهما، وليست الإجابة (إن وُجدت) نهايةَ المطاف؛ فحالة التَّسْآل تستمرُّ باستمرار رحلتنا بصحبة «سعيد تقي الدين»؛ نسيحُ معه في أرجاء المدينة التي سنقفلها غدًا، أو لعلَّنا نهتدي إلى فتح خزائنها المغلقة وبواباتها السرية، ونَتِيه في مجاهلها. على أن القصص والأحاديث الواردة هنا هي من صميم الواقع، مغرقة في تفاصيل الحياة اليومية، وأبطالها حقيقيون غير خارقين. وبالإضافة إلى بلده لبنان، فقد اتَّخَذ تَقِيُّ الدين من «الفلبين» مسرحًا لطائفة من قصصه؛ وذلك بحكم إقامته في تلك البلاد زمنَ تأليفها، ليُطلعنا على خبر «رامز» الذي أنقذت القنبلة الذرية حياته، ويقارن بين زلزلة النفس وزلزال الفلبين، وينقل لنا مذكرات الاغتراب في رحلات الذهاب والإياب.